فصل: سورة مــريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/ سورة النحل

قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ‏:‏

 فصــل

اللباس له منفعتان‏:‏

إحداهما‏:‏ الزينة بستر السوءة‏.‏

والثانية ‏:‏ الوقاية لما يضر من حر أو برد أو عدو‏.‏

فذكر اللباس في ‏(‏سورة الأعراف‏)‏ لفائدة الزينة، وهي المعتبرة في الصلاة والطواف، كما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏31‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 62‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏32‏]‏، ردًا علي ما كانوا عليه في الجاهلية من تحريم الطواف في الثياب الذي قدم بها غير الحُمْسِ ‏[‏الحُمْسُ‏:‏ قريش؛ لأنهم كانوا يتشددون في دينهم وشجاعتهم، وقيل‏:‏ كانوا لا يستظلون أيام مني ولا يدخلون البيوت من أبوابها‏]‏، ومن أكل ما سلوه من الأدهان‏.‏

/ وذكره في النحل لفائدة الوقاية في قوله‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏81‏]‏، ولما كانت هذه الفائدة حيوانية طبيعية لا قوَامَ للإنسان إلا بها جعلها مـن النعم، ولما كانت تلك فائـدة كمالية قرنها بالأمـر الشرعي، وتلك الفائدة من باب جلب المنفعة بالتزين، وهذه من باب دفع المضرة، فالناس إلي هذه أحوج‏.‏

فأما قوله‏:‏ ‏{‏سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ‏}‏، ولم يذكر‏:‏ ‏(‏البرد‏)‏، فقد قيل‏:‏ لأن التنزيل كان بالأرض الحارة فهم يتخوفونه، وقيل‏:‏ حذف الآخر للعلم به، ويقال‏:‏ هذا من باب التنبيه؛ فإنه إذا امتن عليهم بما يقي الحر فالامتنان بما يقي البرد أعظم؛ لأن الحر أذي، والبرد بؤس، والبرد الشديد يقتل، والحر قَلَّ أن يقع فيه هكذا، فإن باب التنبيه والقياس كما يكون في خطاب الأحكام يكون في خطاب الآلاء وخطاب الوعد والوعيد، كما قلته في قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ

أَشَدُّ حَرًّا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏81‏]‏ مثله من يقول‏:‏ لا تنفروا في البرد فإن جهنم أشد زمهريرًا، ‏(‏ومن اغبرت قدماه في سبيل الله حرمهما الله علي النار‏)‏، فالوحل والثلج أعظم ونحو ذلك‏.‏

وفي الآية شرع لباس جنن الحرب؛ ولهذا قرن من قرن باب اللباس والتحلي بالصلاة؛ لأن للحرب لباسا مختصا مع اللباس المشترك، وطابق قولهم اللباس والتحلي قوله‏:‏ ‏{‏يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ

أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏23‏]‏‏.‏ وأحسن من هذا أنه قد تقدم ذكر وقاية البرد في أول السورة بقوله‏:‏ ‏{‏وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 5‏]‏، فيقال‏:‏ لم فرق هذا‏؟‏ فيقال ـ والله أعلم ‏:‏ المذكور في أول السورة النعم الضرورية التي لا يقومون بدونها من الأكل، وشرب الماء القَرَاح ‏[‏القَرَاح‏:‏ الخالص من الماء الذي لم يخالطه كافور ولا حنوط‏]‏، ودفع البرد، والركوب الذي لا بد منه في النقلة، وفي آخرها ذكر كمال النعم‏:‏ من الأشربة الطيبة،والسكون في البيوت وبيوت الأدم، والاستظلال بالظلال، ودفع الحر والبأس بالسرابيل، فإن هذا يستغني عنه في الجملة‏.‏ ففي الأول الأصول، وفي الآخر الكمال؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 81‏]‏‏.‏

وأيضًا، فالمساكن لها منفعتان‏:‏ إحداهما‏:‏ السكون فيها لأجل الاستتار، فهي كلباس الزينة من هذا الوجه‏.‏ والثاني‏:‏ وقاية الأذي من الشمس والمطر والريح ونحو ذلك، فجمع الله الامتنان بهذين فقال‏:‏ ‏{‏وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا‏}‏ هذه بيوت المدر ‏[‏المدر‏:‏ القرى‏]‏ ‏{‏وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏80‏]‏ هذه بيوت العمود ‏{‏وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏80‏]‏، يدخل فيه أُهبة البيت من البسط والأوعية والأغطية ونحوها، وقال‏:‏ ‏{‏مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا‏}‏، ولم يقل‏:‏ من المدر بيوتًا كما قال‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا‏}‏ ؛ لأن السكن بيان منفعة البيت، فبه تظهر النعمة، واتخاذ / البيوت من المدر معتاد، فالنعمة بظهور أثرها؛ بخلاف الأنعام، فإن الهداية إلي اتخاذ البيوت من جلودها أظهر من الهداية إلي نفس اتخاذ البيوت‏.‏

وأما فائدة الوقاية فقال‏:‏ ‏{‏وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏81‏]‏، فالظلال يعم جميع ما يظل من العرش والفساطيط والسقوف مما يصطنعه الآدميون، وقوله‏:‏ ‏{‏مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا‏}‏؛ لأن الجبل يكن الإنسان من فوقه ويمينه ويساره وأسفل منه، ليس مقصوده الاستظلال؛ بخلاف الظلال فإن مقصودها الاستظلال؛ ولهذا قرن بهذه ما في السرابيل من منفعة الوقاية، فجمع في هذه الآية بين وقاية اللباس المنتقل مع البدن، ووقاية الظلال الثابتة علي الأرض؛ ولهذا كانوا في الجاهلية يسوون بينهما في حق المحرم، فكما نهي عن تغطية الرأس، نهوه عن الدخول تحت سقف حتي أنزل الله‏:‏ ‏{‏وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوْاْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 189‏]‏‏.‏ وجاز للمحرم أن يستظل بالثابت من الخيام والشجر، وأما الشيء المنتقل معه المتصل كالمحمل، ففيه ما فيه لتردده بين السرابيل وبين المستقر من الظلال والأكنة‏.‏

كما أنه قبل هذه الآيات ذكر أصناف الأشربة من اللبن والخمر والعسل، وذكر في أول السورة المراكب والأطعمة، وهذه مجامع المطاعم والمشارب والملابس والمساكن والمراكب‏.‏

/ قال شيخ الإسلام‏:‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ‏}‏ الآيتين ‏[‏النحل‏:‏102، 103‏]‏‏.‏ لفظ‏:‏ ‏(‏الإنزال‏)‏ في القرآن يرد مقيدًا بأنه منه كالقرآن، وبالإنزال من السماء، ويراد به‏:‏ العلو كالمطر، ومطلقًا فلا يختص بنوع، بل يتناول إنزال الحديد من الجبال، والإنزال من ظهور الحيوان، وغير ذلك، فقوله‏:‏ ‏{‏نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ‏}‏ بيان لنزول جبريل به من الله، كقوله‏:‏ ‏{‏نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 193‏]‏، أي‏:‏ أنه مؤتمن لا يزيد ولا ينقص، فإن الخائن قد يغير الرسالة‏.‏

وفيها دلالة علي أمور‏:‏

منها‏:‏ بطلان قول من زعم خلقه في جسم كالجهمية من المعتزلة وغيرهم،فإن السلف يسمون من قال بخلقه ونفي الصفات والرؤية جهميا،فإن جهمًا أول من ظهرت عنه بدعة نفي الأسماء والصفات وبالغ في ذلك،فله مزية المبالغة والابتداء بكثرة إظهاره،وإن كان جعد سبقه إلي بعض ذلك،لكن المعتزلة وإن وافقوه في البعض فهم يخالفونه في مثل مسائل الإيمان والقدر وبعض الصفات،وجهم يقول‏:‏ إن الله لا / يتكلم،أو يتكلم مجازا، وهم يقولون‏:‏يتكلم حقيقة،ولكن قولهم في المعني قوله،وهو ينفي الأسماء كالباطنية والفلاسفة‏.‏

ومنها‏:‏ بطلان قول من زعم أنه فاض من العقل الفعال أو غيره، وهذا أعظم كفرًا وضلالا من الذي قبله‏.‏

ومنها‏:‏ إبطال قول الأشعرية‏:‏ إن كلام الله معني وهذا العربي خلق ليدل عليه، سواء قالوا‏:‏ خلق في بعض الأجسام، أو ألهمه جبريل، أو أخذه من اللوح، فإن هذا لابد له من متكلم تكلم به أولا، وهذا يوافق قول من قال‏:‏ إنه مخلوق، لكن يفارقه من وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن أولئك يقولون‏:‏المخلوق كلام الله،وهؤلاء يقولون‏:‏ إنه كلام مجازًا، وهذا أشر من قول المعتزلة، بل هو قول الجهمية المحضة، لكن المعتزلة يوافقونهم في المعني‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم يقولون‏:‏ لله كلام قائم بذاته، والخلقية يقولون‏:‏ لا يقوم بذاته؛ فإن الكُلاَّبية خير منهم في الظاهر، لكن في الحقيقة لم يثبتوا كلاما له غير المخلوق‏.‏

والمقصود أن الآية تبطل هذا، ‏(‏والقرآن‏)‏ اسم للعربي، لقوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏98‏]‏‏.‏وأيضًا،فقوله‏:‏‏{‏نَزَّلَهُ‏}‏ عائد إلي قوله‏:‏‏{‏وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏101‏]‏، فالذي نزله الله هو الذي نزله روح القدس،وأيضًا،قال‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ‏}‏الآية ‏[‏النحل‏:‏103‏]‏، وهم يقولون‏:‏ إنما يعَلِّم هذا القرآن العربي بشر لقوله‏:‏ ‏{‏لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏103‏]‏‏.‏‏.‏‏.‏إلخ، فعلم أن محمدًا لم يؤلف نظما بل سمعه من روح القدس، وروح القدس الذي نزل به من الله،فعلم أنه سمعه منه، لم يؤلفه هو‏.‏

ونظيرها قوله‏:‏‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 114‏]‏ و‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ اسم للقرآن بالضرورة والاتفاق؛ فإنهم أو بعضهم يفرقون بين كتاب الله وكلامه، ولفظ ‏(‏الكتاب‏)‏‏:‏ يراد به المكتوب فيه، فيكون هو الكلام، ويراد به ما يكتب فيه، كقوله‏:‏ ‏{‏فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 78‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏13‏]‏، وقوله ‏:‏ ‏{‏يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 114‏]‏، إخبار مستشهد بهم، فمن لم يقر به منا فهم خير منه من هذا الوجه‏.‏

وهذا لا ينافي ما جاء عن ابن عباس وغيره‏:‏ أنه أنزل في ليلة القدر إلي بيت العزة في السماء الدنيا، ولا ينافي أنه مكتوب في اللوح قبل نزوله، سواء كتبه الله قبل أن يرسل به جبريل، أو بعده‏.‏ فإذا أنزل جملة إلي بيت العزة فقد كتبه كله قبل أن ينزله، والله يعلم ما كان وما يكون، وما لا يكون لو كان كيف يكون، وهو قد كتب المقادير وأعمال العباد قبل أن يعملوها، ثم يأمر بكتابتها بعد أن يعملوها، فيقابل بين / الكتابة المتقدمة والمتأخرة فلا يكون بينهما تفاوت، هكذا قال ابن عباس وغيره‏.‏ فإذا كان ما يخلقه بائنًا عنه قد كتبه قبل أن يخلقه ، فكيف لا يكتب كلامه الذي يرسل به ملائكته قبل أن يرسلهم‏؟‏‏.‏

ومن قال‏:‏ إن جبرائيل أخذه عن الكتاب، لم يسمعه من الله فهو باطل من وجوه‏:‏

منها‏:‏ أنه ـ سبحانه ـ كتب التوراة لموسي بيده، فبنو إسرائيل أخذوا كلامه من الكتاب الذي كتبه ومحمد عن جبريل عن الكتاب فهم أعلي بدرجة، ومن قال‏:‏ إنه ألقي إلي جبريل معاني وعبر بالعربي فمعناه أنه ألهمه إلهاما، وهذا يكون لآحاد المؤمنين، كقوله‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 111‏]‏، ‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 7‏]‏، فيكون هذا أعلي من أخذ محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأيضًا ‏:‏ فإنه ـ سبحانه ـ قال‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ‏}‏ إلي قوله‏:‏ ‏{‏وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 163، 164‏]‏، وهذا يدل علي أمور‏:‏ علي أنه يكلم العبد تكليما زائدًا علي الوحي الذي هو قسيم التكليم الخاص‏.‏

فإن لفظ التكليم والوحي كل منهما ينقسم إلي عام وخاص، فالتكليم / العام‏:‏ هو المقسوم في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ‏}‏ الآية ‏[‏الشوري‏:‏ 51‏]‏‏.‏ فالتكليم المطلق قسيم الوحي الخاص، لا قسمًا منه، وكذلك الوحي يكون عامًا فيدخل فيه التكليم الخاص، كقوله‏:‏ ‏{‏فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏13‏]‏، ويكون قسيمًا له كما في الشوري، وهذا يبطل قول من قال‏:‏ إنه معني واحد قائم بالذت، فإنه لا فرق بين العام وما لموسي‏.‏ وفرق ـ سبحانه ـ في ‏(‏الشوري‏)‏ بين الإيحاء، وبين التكليم من وراء حجاب، وبين إرسال رسول فيوحي بإذنه ما يشاء ‏.‏

/ سورة الإسراء

 وقال شيخ الإسلام ـ رَحِمَهُ الله‏:‏

في الكلام علي قوله تعالي‏:‏ ‏{‏قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ‏}‏ الآيتين ‏[‏الإسراء‏:‏56، 57‏]‏، لما ذكر أن من السلف من ذكر أنهم من الملائكة، ومنهم من ذكر أنهم من الإنس، ومنهم من ذكر أنهم من الجن‏.‏

لفظ السلف يذكرون جنس المراد من الآية علي التمثيل، كما يقول الترجمان لمن سأله عن الخبز‏:‏ فيريه رغيفًا، والآية هنا قصد بها التعميم لكل ما يدعي من دون الله، فكل من دعا ميتًا أو غائبًا من الأنبياء والصالحين‏.‏ سواء كان بلفظ الاستغاثة أو غيرها، فقد تناولته هذه الآية كما تتناول من دعا الملائكة والجن، ومعلوم أن هؤلاء يكونون وسائط فيما يقدره الله بأفعالهم، ومع هذا فقد نهي عن دعائهم، وبين أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين ولا تحويله، لا يرفعونه بالكلية، ولا يحولونه من موضع إلي موضع، أو من حال إلي حال، كتغيير صفته أو قدره؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَحْوِيلاً‏}‏ فذكر نكرة تعم أنواع التحويل‏.‏

/ وقال تعالي‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏6‏]‏، كان أحدهم إذا نزل بواد يقول‏:‏ أعوذ بعظيم هذا الوادي من سفهائه، فقالت الجن‏:‏ الإنس تستعيذ بنا، فزادوهم رهقًا، وقد نص الأئمة ـ كأحمد وغيره ـ علي أنه لا تجوز الاستعاذة بمخلوق، وهذا مما استدلوا به علي أن كلام الله غير مخلوق، لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه استعاذ بكلمات الله، وأمر بذلك، فإذا كان لا يجوز ذلك؛ فلأن لا يجوز أن يقول‏:‏ أنت خير مستعاذ يستعاذ به أولي‏.‏ فالاستعاذة، والاستجارة، والاستغاثة‏:‏ كلها من نوع الدعاء، أو الطلب، وهي ألفاظ متقاربة‏.‏

ولما كانت الكعبة بيت الله الذي يدعي ويذكر عنده، فإنه ـ سبحانه ـ يستجار به هناك، وقد يستمسك بأستار الكعبة كما يتعلق المتعلق بأذيال من يستجير به، كما قال عمرو بن سعيد‏:‏ إن الحرم لا يعيذ عاصيا، ولا فارًا بدم، ولا فارًا بخربة‏.‏ وفي الصحيح‏:‏ ‏(‏يعوذ عائذ بهذا البيت‏)‏‏.‏

والمقصود أن كثيرًا من الضالين يستغيثون بمن يحسنون به الظن، ولا يتصور أن يقضي لهم أكثر مطالبهم، كما أن ما تخبر به الشياطين من الأمور الغائبة يكذبون في أكثره، بل يصدقون في واحدة ويكذبون في أضعافها، ويقضون لهم حاجة واحدة ويمنعونهم أضعافها، / يكذبون فيما أخبروا به وأعانوا عليه، لإفساد حال الرجال في الدين والدنيا، ويكون فيه شبهة للمشركين، كما يخبر الكاهن ونحوه‏.‏

والله ـ سبحانه ـ جعل الرسول مبلغًا لأمره ونهيه ووعده ووعيده، وهؤلاء يجعلون الرسل والمشائخ يدبرون العالم بقضاء الحاجات وكشف الكربات، وليس هذا من دين المسلمين، بل النصاري تقول هذا في المسيح وحده بشبهة الاتحاد والحلول؛ ولهذا لم يقولوه في إبراهيم وموسي وغيرهم، مع أنهم في غاية الجهل في ذلك، فإن الآيات التي بعث بها موسي أعظم، ولو كان هذا ممكنًا لم يكن للمسيح خاصية به، بل موسي أحق‏.‏

ولهذا كنت أتنزل مع علماء النصاري إلي أن أطالبهم بالفرق بين المسيح وغيره من جهة الإلهية فلا يجدون فرقًا، بل أبين لهم أن ما جاء به موسي من الآيات أعظم، فإن كان حجة في دعوي الإلهية فموسي أحق، وأما ولادته من غير أب فهو يدل علي قدرة الخالق، لا علي أن المخلوق أفضل من غيره‏.‏

/ سورة الكهف

 فَصْـــل

حديث علي ـ رضي الله عنه ـ المخرج في الصحيحين لما طرقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفاطمة وهما نائمان، فقال‏:‏ ‏(‏ألا تصليان‏؟‏‏)‏، فقال علي‏:‏ يا رسول الله، إنما أنفسنا بيد الله إن شاء أن يمسكها، وإن شاء أن يرسلها‏.‏ فولي النبي صلى الله عليه وسلم وهو يضرب بيده علي فخذه، ويعيد القول، ويقول‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 54‏]‏‏.‏

هذا الحديث نص في ذم من عارض الأمر بالقدر؛ فإن قوله‏:‏ إنما أنفسنا بيد الله إلي آخره، استناد إلي القدر في ترك امتثال الأمر، وهي في نفسها كلمة حق، لكن لا تصلح لمعارضة الأمر، بل معارضة الأمر بها من باب الجدل المذموم الذي قال الله فيه‏:‏‏{‏وَكَانَ الْإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا‏}‏، وهؤلاء أحد أقسام القدرية وقد صنفتهم في غير هذا الموضع‏.‏ فالمجادلة الباطلة‏.‏‏.‏‏.‏‏[‏بياض بالأصل‏]‏‏.‏

/  سورة مــريم

قال شيخ الإسلام ـ رَحِمَهَُُ الله‏:‏

 فَصْـــل

‏(‏سورة مريم‏)‏ مضمونها‏:‏ تحقيق عبادة الله وحده، وأن خواص الخلق هم عباده، فكل كرامة ودرجة رفيعة في هذه الإضافة، وتضمنت الرد علي الغالين الذين زادوا في النسبة إلي الله حتي نسبوا إليه عيسي بطريق الولادة، والرد علي المفرطين في تحقيق العبادة وما فيها من الكرامة، وجحدوا نعم الله التي أنعم بها علي عباده المصطفين‏.‏

افتتحها بقوله‏:‏ ‏{‏ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 2‏]‏،وندائه ربه نداء خفيا، وموهبته له يحيي، ثم قصة مريم وابنها، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏إلخ ‏[‏مريم‏:‏30‏]‏، بين فيها الرد علي الغلاة في المسيح، وعلي الجفاة النافين عنه ما أنعم الله به عليه، ثم أمر نبيه بذكر إبراهيم وما دعا إليه من عبادة الله وحده، ونهيه أباه عن عبادة الشيطان، وموهبته / له إسحاق ويعقوب، وأنه جعل له لسان صدق عليا، وهو الثناء الحسن، وأخبر عن يحيي وعيسي وإبراهيم ببر الوالدين مع التوحيد، وذكر موسي ومن هبته له أخاه هارون نبيا، كما وهب يحيي لزكريا وعيسي لمريم وإسحاق لإبراهيم‏.‏

فهذه السورة ‏(‏سورة المواهب‏)‏، وهي ما وهبه الله لأنبيائه من الذرية الطيبة، والعمل الصالح، والعلم النافع، ثم ذكر ذرية آدم لأجل إدريس، ‏{‏وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏58‏]‏ وهو إبراهيم، ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل إلي آخر القصة‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ‏}‏الآية ‏[‏مريم‏:‏59‏]‏‏.‏ فهذه حال المفرطين في عبادة الله، ثم استثني التائبين وبَينَ أن الجنة لمن تاب، وأن جنات عدن وعدها الرحمن عباده بالغيب، وهم أهل تحقيق العبادة، ثم قال‏:‏ ‏{‏تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 36‏]‏،ثم قال‏:‏‏{‏فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏56‏]‏‏.‏

ثم ذكر حال منكري المعاد وحال من جعل له الأولاد، وقرن بينهما فيما رواه البخاري من حديث أبي هريرة‏:‏ ‏(‏كذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، وشتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك‏)‏، الحديث‏.‏ ‏{‏وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 66‏]‏،ثم ذكر إقسامه علي / حشدهم والشياطين، وإحضارهم حول جهنم جثيا، وفيها دلالة علي أن المخبر عن خبر يحصل في المستقبل لا يكون إلا بطريقين‏:‏ إما اطلاعه علي الغيب، وهو العلم بما سيكون، وإما أن يكون قد اتخذ عند الرحمن عهدًا، والله موف بعهده، فالأول علم بالخبر، والثاني علم بالأمر‏.‏ الأول علم بالكلمات الكونية، والثاني علم بالكلمات الدينية، وهذا الذي أقسم أنه يأتي يوم المعاد ما ذكر كاذب في قسمه، فإنه ليس له اطلاع علي الغيب، ولا اتخذ عند الرحمن عهدًا‏.‏

وهذا كما قيل في إجابة الدعاء‏:‏إنه تارة يكون لصحة الاعتقاد، وهو مطابقة الخبر،وتارة لكمال الطاعة وهو موافقة الأمر،كقوله‏:‏ ‏{‏فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏186‏]‏،فذكر حال من تمني علي الله الباطل بلا علم بالواقع، ولا اتخاذ عهد بالمشروع‏.‏

ثم ذكر حال الذين قالوا اتخذ الرحمن ولدًا، فنفي الولادة عن نفسه، ورد علي من أثبتها، وأثبت المودة ردًا علي مـن أنكرها، فقال‏:‏ ‏{‏سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏96‏]‏ أي‏:‏ يحبهم، ويحببهم إلي عباده، وقد وافق ذلك ما في الصحيحين‏:‏ ‏(‏إذا أحب الله العبد نادى جبريل‏:‏ إني أحب فلانًا فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء‏:‏ إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ويوضع له القبول في الأرض‏)‏، / وقال في البغض عكس ذلك‏.‏

وفي قول إبراهيم‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 47‏]‏،وقوله في موسي‏:‏ ‏{‏وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏52‏]‏،وماذكره للمؤمنين من المودة‏:‏ إثبات لما ينكره الجاحدون من محبة الله وتكليمه، كما في الأول نفي لما يثبته المفترون من اتخاذ الولد‏.‏

/ سُئِلَ ـ رَضي الله عَنْـهُ ـ عن قوله عز وجل ‏:‏ ‏{‏فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 59‏]‏، هل ذلك فيمن أضاع وقتها فصلاها في غير وقتها، أم فيمن أضاعها فلم يصلها‏؟‏ وقوله تعالي‏:‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ‏}‏ ‏[‏الماعون‏:‏ 4، 5‏]‏، هل هو عن فعل الصلاة، أو السهو فيها كما جرت العادة من صلاة الغَفَلَة الذين لا يعقلون من صلاتهم شيئًا‏؟‏ أفتونا مأجورين‏.‏

فأجاب ـ رضي الله عنه ‏:‏

الحمد لله رب العالمين، بل المراد بهاتين الآيتين من أضاع الواجب في الصلاة لا مجرد تركها، هكذا فسرها الصحابة والتابعون وهو ظاهر الكلام،فإنه قال‏:‏‏{‏فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ‏}‏، فأثبت لهم صلاة وجعلهم ساهين عنها، فَعُلِم أنهم كانوا يصلون مع السهو عنها، وقد قال طائفة من السلف‏:‏ بل هو السهو عما يجب فيها مثل ترك الطمأنينة، وكلا المعنيين حق، والآية تتناول هذا وهذا، كما في صحيح مسلم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق،/ تلك صلاة المنافق، يرقب الشمس حتي إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقرها أربعًا لا يذكر الله فيها إلا قليلاً‏)‏‏.‏

فبين النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن صلاة المنافق تشتمل علي التأخير عن الوقت الذي يؤمر بفعلها فيه، وعلي النقر الذي لا يذكر الله فيه إلا قليلا، وهكذا فسروا قوله‏:‏ ‏{‏فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ‏}‏ بأن إضاعتها تأخيرها عن وقتها وإضاعة حقوقها، وجاء في الحديث‏:‏ ‏(‏إن العبد إذا قام إلي الصلاة بطهورها وقراءتها وسجودها ـ أو كما قال ـ صعدت ولها برهان كبرهان الشمس تقول له‏:‏ حفظك الله كما حفظتني، وإذا لم يتم طهورها وقراءتها وسجودها ـ أو كما قال ـ فإنها تلف كما يلف الثوب وتقول له‏:‏ ضيعك الله كما ضيعتني‏)‏‏.‏ قال سلمان الفارسي‏:‏ الصلاة مكيال من وَفَّي وُفِّي له، ومن طفف فقد علمتم ما قال في المطففين‏.‏ وفي سنن أبي داود عن عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إن العبد لينصرف من صلاته ولم يكتب له إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها، إلا خمسها، إلا سدسها، إلا سبعها، إلا ثمنها، إلا تسعها، إلا عشرها‏)‏‏.‏

وقد تنازع العلماء فيمن غلب عليه الوسواس في صلاته هل عليه الإعادة علي قولين‏.‏

لكن الأئمة كأحمد وغيره علي أنه لا إعادة عليه، واحتجوا بما في / الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان وله ضراط حتي لا يسمع التأذين، فإذا قضي التأذين أقبل، فإذا ثُوِّب بالصلاة أدبر، فإذا قضي التَّثْوِيبُ أقبل حتي يخطر بين المرء ونفسه، فيقول‏:‏ اذكر كذا اذكر كذا لما لم يكن يذكر حتي يضل الرجل لن يدري كم صلي، فإذا وجد أحدكم ذلك فليسجد سجدتين قبل أن يسلم‏)‏‏.‏ ‏(‏فقد عم بهذا الكلام ولم يأمر أحدًا بالإعادة‏.‏

والثاني‏:‏ عليه الإعادة، وهو قول طائفة من العلماء‏:‏من الفقهاء والصوفية من أصحاب أحمد وغيره؛ كأبي عبد الله بن حامد وغيره لما تقدم من قوله‏:‏‏(‏ ولم يكتب له منها إلا عشرها‏)‏‏.‏

والتحقيق، أنه لا أجر له إلا بقدر الحضور، لكن ارتفعت عنه العقوبة التي يستحقها تارك الصلاة، وهذا معني قولهم‏:‏ تبرأ ذمته بها، أي‏:‏ لا يعاقب علي الترك، لكن الثواب علي قـدر الحضور، كما قـال ابن عباس‏:‏ ليس لك مـن صلاتك إلا ما عقلت منها، فلهذا شرعت السنن الرواتب جبرًا لما يحصل من النقص في الفرائض‏.‏ والله أعلم‏.‏